ندية ، كخرزات الندى
المنثورة على أوراق شجرة التوتة الخضراء . . .
طاهرة طهر الطفولة
المطلقة ، خالجتها بشاشتها العفوية . . .
عميقة عمق البحر الأزرق ، يعكس
صورة السماء ، في قلبه الشمس ، و قوس ملون من ألوان قزح . . .
مشرقة
بثغرها المتقد الباسم ، ووردتين على الوجنتين ، و عينيها الزرقاوتين
الساحرتين كسحر البحر . . .
هي الأم كما حدثتنا عنها معلمة
اللغة في حصة التعبير !
أما أمي ، فلم تكن كتلك الأم التي درسناها . . .
!
كانت أمي قاتمة اللون ، نحيلة ، كساق يابسة ، عرتها الريح من كل ما
يضفي عليها جمالا رطبا حتى من شعرها ، كثيرا ما كانت تناديني إليها خارج
أوقات سفرها الذي كان يطول ، كانت تجلسني بجانبها ، معللة بأن حضنها الدافئ
لم يعد يقو على حملي . . !
في يدها المرتجفة ، و بين أصابعها النحيلة ،
تحمل كتابا فيه صور ملونة ، تفتح على صورة قديمة لتقول لي :
- هذه أنا
يا أحمد تذكر هذه الصورة ، وانس صورتي التي لا تحبها . . . !
لم أكن
أكره أمي ، لكني كنت أكره صورتها ، خصوصا عندما أخبرني صديقي بأن أمه بلغت
الثلاثين من عمرها _ كأمي تماما _ لكنها ما زالت تملك شعرا
طويلا
، و حواجب مقوسة ، و رموشا ملتفة تعكس ألوان الشمس حين تلامسها . . . !
كنت
كثير البكاء ، رغم أن أمي كانت تناديني بالرجل . . .
لا أدري ما الذي
كان يبكيني ، حين كانت يداي تلامس قسمات و جهها
الغائرة ، أو حين
كنت أراها ترتعش تحت أغطية سريرها الحريري الدافئ ، أو حين كانت تنادي أبي
بكل ما تملك من قوة ، وجوارحها تتألم ، و عيونها تبكي . . تبكي دموعا جافة .
. ، لتصرخ في وجهي : ابتعد عني لا تقترب مني . . !
رأيتها ، و جسدها
الغض المثقل ، يستلقي بارتياح مشدود على أريكة الصالة ، كان أبي بجانبها ،
عيناه تحدقان في ابتسامتها المتعبة ، و يده القاسية تملكت وجنتيها . . .
اقتربت
منها بخطوات خجلة ، مرهفا سمعي لتراتيل أبي ، حدقت في عينيها ، فاستحال
صفاؤهما إلى ركود مصبوغ بألوان العواصف ، أنين ودموع . . .
ترقرق الدمع
في عيني . . .
نظر إلي أبي . . .
خرجت مسرعا و أنا أصرخ
دموعي من
آثار الصابون يا أبي ، فأن لا أبكي ، إنــي رجـــل . . . !
ركضت مسرعا ،
أغلقت باب الصالة ، بقوة ، وعصبية ، وألم . . !
جلست على عتبة الباب ،
في صمت جلست ، و رأسي غائر بين كفي . . .
و تراتيل أبي تعلو . . .
ربما
آلمني صديقي عندما عيرني بأمي قائلا إنها ترعبه . . .
لكنها ... . أمي .
…. و تحبني . .
ربما صرخت في و جهي يوما بأن لا تريدني أن أراها . .
لكنها
. . تحبني . .
إنها أمي و تبقى أمي . .
و أنا أحبها . . بلى أحبها
وأعشقها . .
أعشق قلبها الغض الذي فجرني حبا و حنانا . .
أعشق
روحها النبيلة التي سهرت علي حتى مع ألمها و تعبها . .
أعشق عينيها
الحالمتين . .
و ابتسامتها التي كانت ترسلها بصعوبة . . بألم . . و
كبرياء . .
أعشق ريحها ،أعشق لونها ، أعشق صوتها ،
أعشقها كلها ،
فكلها أمي ،
أرهفت سمعي لعلي أسمع صوتها . .
لعلها نامت ،
لماذا
سكن صوتها ؟؟!!
تراتيل أبي تعلو ،
حشرجات أبي تعلو ،
بكاء أبي
يعلو ،
نحيب أبي يعلو ،
ماتت أمي
انهمرت دموعي صارخة ، آلام و
غصات تتزاحم في قلبي . . انفجرت كالبركان الأحمر. .
صرخت بكل قوتي و
ألمي
صرخت لعشقي ، لطفولتي المتكسرة ،
_ الرجال لا يبكون يا
أبي